سورة يس - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)} [يس: 36/ 1- 12].
يس: إما اسم من أسماء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أو إنها حروف مقطعة للتنبيه على أهمية السورة وتحدي العرب بالقرآن بأن يأتوا بمثله، مع أنه متكوّن من الحروف الأبجدية أو الهجائية التي تتركب منها لغتهم. أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بنظمه ومعناه، ذي الحكمة البالغة، بأنك يا محمد لرسول من عند الله، على طريق قويم، ومنهج سليم. وهذا القرآن تنزيل من عند الله ذي العزة والقوة، الرحيم بعباده المؤمنين، ولقد أرسلناك أيها الرسول لتنذر قومك العرب الذين لم يأتهم رسول منذر من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والشرع.
نزلت هذه الآية فيما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة حين نزول هذه الآيات، وهو ما دوّن في شأنهم في اللوح المحفوظ، أنهم لا يؤمنون بالقرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر. ومثل تصميمهم على الكفر كمثل المكبّل في الأغلال لا يستطيع فعل شيء ولا يبصر شيئا. وهذا المثل: إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود، تمنعهم من فعل شيء حتى صاروا مرفوعي الرؤوس، خافضي الأبصار، أي إنهم كالمطوّقين بالقيود في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يستطيعون توجيه أنظارهم إلى شيء.
وتأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم: أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كالمضروب عليهم السدّ، المحيط بهم من الأمام والخلف، ومنعوا من النظر، فهم لا يبصرون شيئا، ولا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه.
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا} إلى قوله: {لا يُبْصِرُونَ} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر. فالآية مستعارة المعنى من منع الله إياهم وحوله بينه وبينهم، وهذا أرجح الأقوال، لأنه لما ذكر الله أنهم لا يؤمنون في العلم الأزلي، جعلوا في حالة من المنع، وإحاطة الشقاوة كالمضروب عليهم السد، وتشبه حالهم حال المغلوبين.
ونتيجة لهذا التطويق، يستوي أيها النبي إنذارك لهؤلاء المصرّين على الكفر، وعدم الإنذار، فهم لا يؤمنون، ولا ينفعهم الإنذار.
إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم، واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه، وقبل رؤية الله، فهؤلاء بشرّهم بمغفرة لذنوبهم، وبأجر كريم وفير على أعمالهم وهو الجنة.
ثم أكد الله تعالى تحقيق الجزاء في عالم الآخرة بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى} أي إننا قادرون على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين نكتب لهم كل ما قدّموه من عمل صالح أو سيّئ، وكل ما تركه من آثار طيبة أو خبيثة.
وسبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ} فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن آثاركم تكتب». فلم ينتقلوا. وفي صحيح مسلم قال: «يا بني سلمة، دياركم، تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم». وهذا لا يمنع من كون الآية مكية، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم احتج عليهم في المدينة، واتفق قوله صلّى اللّه عليه وسلّم مع الآية في المعنى. والمراد بالآثار: الخطى إلى المساجد.
أصحاب القرية:
يتكرر ضرب الأمثال في القرآن الكريم للعظة والاعتبار والتأثر بأحداث الآخرين، وفي سورة يس ضرب الله مثلا لحال قريش الذين أصروا على الكفر، بحال أهل قرية كذّبوا الرسل، فدمرّهم الله بصيحة واحدة. والقرية، على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، والزهري: أنطاكية. والمرسلون: هم جماعة من الحواريين، بعثهم عيسى عليه السّلام قبل رفعه إلى السماء، وقبل صلب الذي ألقي عليه شبهه. وهم رسولان دعوا أهل القرية إلى عبادة الله وحده، وإلى الهدى والإيمان، فكذبوهما، فشدّد الله أمرهما بثالث، فصاروا ثلاثة، وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره وكفروا، فأصابتهم صيحة من السماء، فخمدوا وماتوا. فإذا استمر مشركو قريش على عنادهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، قال الله تعالى:


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)} [يس: 36/ 13- 29].
المعنى: اضرب يا محمد مثلا في الغلو والكفر لقومك بأهل قرية هي أنطاكية في رأي ابن عباس، حين أرسل الله إليهم ثلاثة رجال مرسلين من أصحاب عيسى عليه السّلام الحواريين، فكذبوهم. وعدد المرسلين اثنان أرسلهما عيسى بأمر الله تعالى، فكذب القوم رسالتهما، فأيدهما الله برسول ثالث، فقالوا لأهل القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده، وتتركوا عبادة الأصنام.
فقال أهل القرية للمرسلين الثلاثة: لستم أنتم إلا بشرا أمثالنا، تأكلون الطعام وتشربون، فمن أين لكم التميز علينا؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل، فما أنتم بادعائكم الرسالة إلا قوم كاذبون.
فأجابهم الرسل الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام. ومهمتنا أنه ليس علينا إلا إبلاغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح.
فهدّدهم أهل القرية بقولهم: لقد تشاءمنا منكم، ولم نر خيرا في عيشنا معكم، ولئن لم تنتهوا عن دعوتكم هذه، لنرجمنكم بالحجارة، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم شديد.
فأجابهم الرسل الثلاثة: شؤمكم مردود عليكم، وهو مصاحب لكم، وسببه تكذيبكم وكفركم بربكم، ولسنا نحن، بل أنتم قوم مسرفون في الضلال، متجاوزون الحد في مخالفة الحق.
ثم أيدّهم الله بنصير من القوم، فجاء رجل مؤمن بالله وبالرسل، من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار في رواية عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن عباس، فقال ناصحا قومه: يا قوم، اتبعوا رسل الله فيما أتوكم به، لإنقاذكم من الضلال، اتبعوا هؤلاء الذين لا يطلبون منكم أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، فهم مخلصون في عملهم ودعوتهم، وهم جماعة مهتدون إلى الحق والإيمان الصحيح بعبادة الله وحده لا شريك له.
وإني أحب لكم ما أحب لنفسي، وأنا ما الذي يمنعني من عبادة الله الذي خلقني، وإليه رجوعي ومصيري يوم المعاد؟ وفي هذا ترغيب بعبادة الله تعالى وترهيب من عقابه، والدليل على سلامة منهجي في الاعتقاد والعبادة: كيف أتخذ من دون الله آلهة أخرى، لا تضر ولا تنفع، وهي عبادة الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، فلن أتخذ من دون الله آلهة، فإنه إن أرادني الله الرحمن بسوء أو ضرر، لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تنقذني من أي سوء. إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وانحراف بيّن عن الحق، إني صدّقت بربكم الذي أرسلكم أيها الرسل، فاشهدوا لي بذلك عنده. فلما قال ذلك، قتله قومه.
فقيل له: ادخل الجنة، لاستشهادك في سبيل إعلاء كلمة الحق، فدخلها، فلما عاين نعيمها، قال محبا لإنقاذ قومه: يا ليت قومي يعلمون بمآلي وحسن حالي، فيؤمنوا بالله مثل إيماني.
ثم خاطب الله نبيه متوعدا لقريش: لم نحتج في تعذيب القوم إلى جند من جنود الله كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك، بل كانت صيحة واحدة من أحد الملائكة، دمرتهم، لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك، فصاروا بهذه الصيحة موتى هامدين.
بعض أدلة القدرة الإلهية:
عني القرآن الكريم عناية شديدة بإثبات البعث (اليوم الآخر) بإيراد مظاهر أو أدلة على القدرة الإلهية الفائقة، إما بإهلاك الظالمين هلاكا استئصاليا، من الأقوام الغابرين، ثم يحضرهم الله للحساب، وإما بإحياء الأرض الميتة بالمطر وإيجاد البساتين اليانعة وتفجير الأنهار فيها، وإما بسلخ النهار من الليل، أو بتسيير الشمس والقمر في مدارهما، أو بحمل الآباء والذرية في السفن، حفاظا على الوجود الإنساني، وغير ذلك، قال الله تعالى موضحا هذه الأدلة:


{يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)} [يس: 36/ 30- 44].
يا حسرة: المنادي محذوف، أي يا جماعة تحسروا حسرة على هؤلاء، أو المنادي:
الحسرة نفسها، أي هذا أوانك فاحضري.
والمعنى: يا حسرة العباد على أنفسهم بسبب تكذيبهم الرسل، فلم يأتهم رسول من عند الله، لدعوتهم إلى التوحيد والحق والخير لأنفسهم، إلا استهزءوا به وكذّبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق. وقوله: {يا حَسْرَةً} نداء للحسرة بقصد الندبة والتحسر، بمعنى: هذا وقت حضورك وظهورك، والمراد التلهف على العباد والإشفاق عليهم، حين يزج بهم في العذاب. وهذا تمثيل لفعل قريش. ثم عناهم الله تعالى بقوله: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا} أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، خلافا لمزاعم الدهرية أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا قبلهم. ثم أعلمهم الله تعالى بوجود الحساب وعقاب الآخرة بعد عذاب الدنيا، فإن جميع الأمم الماضية والحاضرة والمستقبلية سيتم إحضارهم للحساب يوم القيامة، بين يدي الله عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، وهذا يدل على أن من أهلكه الله في الدنيا له حساب وعقاب آخر في الآخرة.
ومن الآيات أو العلامات الدالة على قدرة الله تعالى على البعث وغيره:
- إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزال الماء عليها، وتحركها بالنبات المختلف، وإخراج الحب الذي هو رزق للناس ودوابهم، وهو معظم ما يؤكل.
- ومن الآيات: إيجاد البساتين المشجرة في الأرض، من نخيل وعنب وغيرها، وتفجير الأنهار فيها في مواضع مختلفة، والقصد من ذلك: أن يأكل الناس من ثمار النخيل والأعناب، ويأكلوا مما صنعته أيديهم من نتاج الثمر والزرع أو الحب، كالعصير والدبس والمربيات ونحوها، فهلا يشكرونه على ما أنعم الله به عليهم من هذه النعم الكثيرة!! وهو أمر بالشكر من طريق إنكار تركه.
تنزيها لله تعالى عن الشريك الذي لا يخلق شيئا، والله وحده هو الذي خلق الأصناف كلها من مختلف الأنواع، من الزروع والثمار والنبات، وخلق من النفوس الذكور والإناث، وخلق أشياء لا يعرفونها، كما جاء في آية أخرى: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 16/ 8].
- ومن آيات قدرته تعالى وهي آية عظيمة لهم: خلق الليل والنهار، وتعاقبهما، وانسلاخ النهار من الليل، فيأتي بالضوء، وتتبدد الظلمة. ونسلخ: نكشط ونقشر، فهي استعارة، و{مُظْلِمُونَ} داخلون في الظلام فجأة.
ومن الآيات: دوران الشمس في فلكها حول نفسها في مدارها، ومستقرها: كناية عن غيوبها أو آخر مطالعها. ذلك تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء، المحيط علمه بكل شيء. وجعل الله للقمر منازل يسير فيها سيرا آخر، وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل في كل ليلة في واحد منها بمعدل 13 درجة في اليوم، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين، فإذا انتهى الشهر يدق ويصغر حتى يصير كغصن النخلة الأصفر اليابس. ولا يتأتى للشمس أن تدرك القمر، ولا العكس، ولا أن يسبق الليل النهار، ولكل منهما مدار يدور في فلكه، و{يَسْبَحُونَ} معناه: يجرون ويعومون.
وعلامة ودليل لهم على قدرة الله ورحمته: تسخير البحار لسير السفن المشحونة بالركاب والبضائع، وحمل ذرياتهم في الأصح: حمل ذريات جنسهم أو نوعهم، لتوفير القوت والمعاش. وخلق الله للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل ونحوها، التي يركبون عليها ويحملون أمتعتهم على ظهورها. والأظهر أنه تعالى يخلق لهم مثل الفلك الموجود في زمانهم- زمان بني آدم إلى يوم القيامة. وإن يشأ الله يغرق في الماء الناس الراكبين والسفن الموجودة، أي السفن وحمولاتهم، فلا يجدون مغيثا يغيثهم أو ينجيهم من الغرق، ولا هم ينقذون مما أصابهم، لكن برحمة من الله نسيّركم أيها الناس في البر والبحر، ونحفظكم من الغرق، وتمتيعا من الله لكم في الدنيا إلى وقت محدود عند الله تعالى، وهو الموت.
أحوال الكفار في التقوى والإنفاق والإيمان بالبعث:
للناس مواقف نابعة من الأهواء والشهوات حول تقوى الله، وآياته، والإنفاق في وجوه الخير، والإيمان بالبعث، فهم لا يخشون الله لانعدام الإيمان الصحيح به، ويعرضون عن آيات الله تهكما واستهزاء ومكابرة، ولا ينفقون من رزق الله شيئا في سبيل الله ودفع حاجة المحتاجين، وينكرون إمكان البعث، لأنهم جماعة ماديون لا يدركون آفاق المستقبل، ويستبعدون إمكان إعادة الأجساد التي صارت رميمة كالتراب إلى الحياة مرة أخرى، ولكنهم سيجدون كل ذلك حتما ويوقفون للحساب والجزاء القائم على الحق والعدل. وهذا ما أخبر به القرآن الكريم في الآيات الآتية:

1 | 2 | 3